السبت، 1 يناير 2011

10سنوات من الصراع لـ "القبض على العالم"

قبل عشر سنوات من الآن، كان العالم يستعد لدخول ألفية جديدة يحدوه الأمل والرجاء في مستقبل واعد للبشرية، لكن مع ذلك ظلت أسئلة كثيرة تتردد وتفرض نفسها حاولت أن تصل إلى إجابات يمكن أن تشكل معالم أو ملامح تلك الألفية الجديدة . كان أبرز هذه التساؤلات ذلك السؤال المحوري الذي طرحه أستاذ العلوم السياسية الأمريكي ليستر ثورو في مؤلفه الشهير الصادر عام 1997 تحت عنوان Head to Head” أو (المتناطحون)، كان ثورو يسأل: من سيسيطر على القرن الحادي والعشرين؟

تحليل توازن القوى بين الصين والولايات المتحدة، وبالذات ما يتعلق بمؤشرات الصعود والهبوط، والذي يؤكد أن الصين في حالة صعود، وأن الولايات المتحدة في حالة أفول أو هبوط، لم يغير من أنماط إدارة الصين لعلاقاتها الدولية، حيث مازالت ملتزمة بالأولويات التي سبق أن حددها زعيم التحول الاستراتيجي الصيني دينغ هياو بنغ، وبالذات الأولوية الاقتصادية على ما عداها من الأولويات، ولكنه أيضاً لم يقنع الأمريكيين بقبول هذه الحقيقة والتكيف معها، بل إن ما يحدث هو العكس، أي التمادي في تضخيم حال القوة الأمريكية، وتجاهل القوة الصينية، والوقوع، بالتالي، في إرباكات هائلة لإدارة السياسة الخارجية الأمريكية وبالذات مع الصين .

من هنا اكتسبت جولة باراك الآسيوية المشار إليها أهميتها من ناحية محاولة كسب الهند إلى الصف الأمريكي في مواجهة الصين، ومن ناحية توظيف هذا التوجه لإقناع الصين بالاستجابة للمطالب الأمريكية لتعديل سعر صرف العملة الصينية (اليوان) الذي تعتقد واشنطن أن سعره أقل من قيمته الحقيقية ما ينعكس سلباً على الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين .

رغم ذلك فإنه على الرغم من كل الإغراءات التي قدمها الرئيس الأمريكي للهند وفي مقدمتها الاعتراف بها كقوة عالمية وليس كمجرد قوة إقليمية وتأييد طلبها الانضمام على عضوية مجلس الأمن فضلاً عن عقد اتفاقيات تعاون اقتصادي وعسكري ونووي غير مسبوق فإنه لم ينجح في تحويل الهند على مركز هجوم اقتصادي وسياسي على الصين في ظل كثافة التعاون الهندي- الصيني وفي ظل تنامي محور التعاون الثلاثي بين روسيا والصين والهند التي تشترك معاً في عضوية ما يعرف الآن ب “مجموعة بريكس” أو “نادي الأربعة” الذي يجمع الدول الثلاث الكبرى إضافة على البرازيل الذي أصبح بشكل قوة ضاغطة ومنافسة للاقتصاديين الأمريكي والأوروبي، حيث تعتبر هذه الدول الأربعة من بين أكبر عشر دول تحتفظ باحتياطيات تبلغ 40% من مجموع احتياطي العالم، الأمر الذي بات يؤكد تداعي فرص الولايات المتحدة لتصبح قوة عالمية أحادية مسيطرة، فضلاً عن أنه أضحى يكشف عن مؤشرات حقيقية لظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب .

وإذا كان هذا التطور يجيء على حساب الحلم الإمبراطوري الأمريكي الذي حرص الأمريكيون على أن يحولوه عنوة إلى واقع، فإن هذا ورط الأمريكيين في أفغانستان وأعلنوا خروجهم الفاتر دون انتصار من العراق من شأنه أن يبدد ما بقي من أطياف هذا الحلم الذي أخذ يتحول إلى كابوس بعد ظهور “تسونامي الوثائقية” التي فضحها موقع ويكيليكس ووضع الدبلوماسية الأمريكية أمام “مأزق المصداقية”، ونال كثيراً من جدارتها مع شركائها وحلفائها باعتراف مسؤولين أمريكيين أكدوا أن بعض الحكومات الأجنبية بدأت تقلص من تعاملاتها مع دبلوماسيين ومسؤولين أمريكيين بعد الكشف عن وثائق نشرها موقع “ويكيليكس”، ولعل هذا ما دفع المعلق السياسي يوجين جوزيف إلى دعوة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإقناع الأمريكيين بأن البلاد لا تعيش حالة من التقهقر، ولا سيما أن التراجع الأمريكي يطارد السياسات في البلاد . ففي مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” أشار جوزيف إلى أن المشاعر الراهنة بالتقهقر طفت على السطح على نطاق واسع، نظرا لأن “بلادنا” في العقد الأول من الألفية الجديدة بددت مصالحها الدولية، وأنهكت قواها بحرب “غير ضرورية” في العراق، ودمرت أموال الحكومات الفدرالية، وانزلقت في أكبر أزمة مالية منذ ثمانين عاماً .

كل ذلك حدث في وقت بدأت فيه الصين والهند تتحديان الهيمنة الأمريكية، وأخذ الأمريكيون يشعرون بأن ثمة شيئاً خطأ، وهم محقون في ذلك، حسب تعبير الكاتب الذي نوه بأن فوز أوباما بالرئاسة جاء لعدة أسباب أهمها الرغبة الشعبية في تغيير مشاعر التقهقر، مشيراً إلى أن شعاري أوباما الانتخابيين “الأمل” و”التغيير” - سواء جاء بالمصادفة أو عن قصد- لامساً مشاعر الخوف من فقد التفوق، غير أنه يرى أن على أوباما أن يركز على الدعوة إلى الإصلاح في البلاد، بدلاً من خطابه بشأن منافسة الصين، والإشارة إلى أن بكين - دون أمريكا- تتخذ المبادرات في الطاقة والتعليم وغيرها . وأن على الرئيس الأمريكي أيضاً أن تكون له رؤيته الخاصة حول الاستثنائية، من دون أن يدعى أن الولايات المتحدة تستطيع أن تحتل المكانة التي كانت عليها قبل صعود الصين .

محاولة الإنقاذ هذه تتوقف بدرجة كبيرة على ثلاثة شروط أولها امتلاك الرئيس الأمريكي الجدارة ليقوم بهذا الدور، وثانيها أن تكون فرص الإصلاح متاحة وميسرة، وثالثها أن تكون لديه الشجاعة الكافية للخروج من أفغانستان استجابة لوصية ريتشارد هوليروك مثلاً، الراحل في أفغانستان وباكستان، شرط ألا يكون هذا الخروج على حساب علاقات واشنطن مع باكستان التي تعاني من أزمات متلاحقة خاصة أزمة الاستقرار السياسي التي بلغت ذروتها باغتيال بي نظير بوتو رئيسة الوزراء السابقة والملاحقات التي طالت الرئيس السابق برويز مشرف ضمن مسؤولين عن اغتيال بوتو، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي ضاعفتها الفيضانات الأخيرة، ناهيك عن الصراع ضد حركة طالبان باكستان والضغوط التي تمارس على الجيش الباكستاني من جانب الأمريكيين للتورط في الحرب ضد القبائل على الحدود الباكستانية- الأفغانية .

هذه الشروط الثلاثة تبدو غائبة، لكن التداعيات السلبية لغيابها تتضاعف مع ما يحدث من تطورات في إقليم الشرق الأوسط تعتبر من أهم ما يواجه الولايات المتحدة من تحديات .

توازنات الشرق الأوسط المراوغة

ضمن كل تلك التطورات يجيء إقليم الشرق الأوسط وفي قلبه النظام العربي بأحداث ساخنة تفاقم أزماته لدرجة باتت تتهدد الاستقرار والأمن الإقليمي وتقود إلى تفكيك النظام العربي تحت سطوة تداعيات مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي دمر العراق ووحدته واستقراره وضاعف من مخاطر تفشي ظاهرة الإرهاب والاستقطاب الطائفي والمذهبي، وتفكيك روابط النظام العربي وتهديد الدولة العربية بخطر التقسيم والتفتيت الداخلي . كانت البداية في العراق وها هي تتجسد قوته في اليمن والسودان وتمتد إلى لبنان كمقدمات للنيل من دول عربية كبيرة .

ظاهرة تأزيم النظام العربي هذه اقترنت ببروز قوى لنظام الشرق الأوسط وطغيانه بتفاعلاته على أداء النظام العربي في أبرز قضاياه وأزماته خاصة العراق وفلسطين ولبنان، حيث أضحى الظهور الإيراني والتركي القوي طاغياً على أداء النظام الرسمي العربي في هذه الأزمات، وبات مستقبل النظام العربي معلقاً بمستقبل إدارة علاقات التعاون والصراع بين القوى الإقليمية الثلاث المتنافسة: إيران و”إسرائيل” وتركيا التي تملك كل منها مشروعاً قومياً تسعى من خلاله إلى فرض سيطرتها وزعامتها على إقليم الشرق الأوسط وفي قلبه الوطن العربي .

فإذا كانت “إسرائيل” تملك القدرات الذاتية والدعم الخارجي الأمريكي على وجه الخصوص من خلال تطابق المشروعين الصهيوني والأمريكي اللذين يؤهلانها، ضمن طموحاتها التوسعية، لفرض نفسها قوة إقليمية مهيمنة فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمشروعها الإسلامي تتحدى هذه الهيمنة “الإسرائيلية” وترفضها وتسعى لفرض نفسها قوة إقليمية قائدة بديلة اعتماداً على خصوصياتها السياسية والدينية وقدراتها الاقتصادية والعسكرية وفي قلبها القدرات النووية التي تدعم من مكانة النفوذ والدور الإيراني على المستوى الإقليمي .

أما تركيا فهي وفي ظل حكم “حزب العدالة والتنمية” والتزاماتها بنظرية “العمق الاستراتيجي” التي صاغها وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو تبدو وكأنها مكتفية بدور “القوة الموازنة”، ولكنها تسعى في الواقع إلى توظيف قدراتها الناعمة المتفوقة (الاقتصاد والدبلوماسية ومهارة الوساطة وحل الأزمات) لتهيئة ظروف إحياء مشروع “عثماني جديد” تبدو ظاهرياً متعففة عن الخوض فيه . وهكذا تبدو تركيا شديدة الحرص على توجهاتها لعضوية الاتحاد الأوروبي مع توسع في انخراطها في شؤون الشرق وخاصة الشرق العربي وإدارة تفاعلات شديدة الحساسية مع كل من إيران و”إسرائيل”، لكن السنوات الأخيرة شهدت كثافة في العديد من الأنشطة التركية باتجاه القضية الفلسطينية والأزمة اللبنانية وتطورات العراق والتقارب مع سوريا ما جعلها مهيأة أكثر لعلاقات شراكة مع إيران تنافس علاقاتها مع “إسرائيل” فقد حدثت في العامين الأخيرين تطورات شديدة الأهمية في العلاقات بين تركيا وإيران ضمن التحولات الجديدة في التوجهات الاستراتيجية التركية الجديدة وبالذات إعطاء المزيد من الاهتمام التركي بالقضية الفلسطينية والتحول من علاقات التوتر مع كل من سوريا والعراق وإيران إلى علاقات الشراكة بل والطموح نحو التحالف والتعاون بين تركيا وكل من سوريا وإيران في العديد من الملفات الإقليمية الساخنة خاصة: القضية العراقية، والقضية الفلسطينية، والقضية اللبنانية، إضافة إلى الملف النووي الإيراني، وهو تعاون وضع تركيا في تعارض مع التوجهات الأمريكية و”الإسرائيلية” .

هذه التطورات أسفرت عن توقيع تركيا اتفاقيات شراكة استراتيجية مع سوريا والعراق وتوقيع اتفاقيات تعاون متعددة الأبعاد مع إيران وقبول بالدعوة السورية- الإيرانية لتأسيس شراكة رباعية: عراقية- سورية- تركية، تكون قادرة على مواجهة المخاطر المشتركة في المنطقة وفي مقدمتها الخطر “الإسرائيلي”، والنهوض بالتعاون المشترك في كافة المجالات .

الأشهر الأخيرة شهدت دخول علاقات تركيا مع إيران مراحل متقدمة من التعاون والتنسيق السياسي والاقتصادي جرى تأكيدها على المستويين الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي . فعلى عكس ما تريده الولايات المتحدة في صراعها مع إيران وضغوطها لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية ضدها على نحو ما حدث في قرار العقوبات الجديد الصادر عن مجلس الأمن تحت رقم ،1929 ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران بنسبة 69% خلال الأشهر التسعة الماضية من هذا العام (يناير- أكتوبر 2010) ليصل إلى 7 مليار و339 مليون و454 ألف دولار، ومن المتوقع أن يرتفع حتى نهاية هذا العام ليصل إلى 10 مليار دولار .

وقد اقترن هذا التعاون الاقتصادي بين تركيا وإيران بتعاون استراتيجي وآخر سياسي، حيث قبلت إيران اختيار تركيا لتكون مكاناً لتبادل اليورانيوم مع مجموعة “5+1” وفقاً لاتفاق فيينا (سبتمبر 2009)، بدلاً من روسيا . وبقدر ما أدى هذا القرار إلى تزعزع علاقات إيران مع روسيا فقد أدى إلى دعم العلاقات مع تركيا، التي نجحت مع البرازيل لقرار العقوبات الجديدة ضد إيران الذي جاء متناقضاً مع تفاهمات أمريكية مع الدولتين لتوقيع اتفاق طهران الثلاثي حول تبادل اليورانيوم .

هذا التعاون التركي-  الإيراني تعرض في الشهرين الأخيرين إلى تهديد حقيقي من جراء توقيع تركيا على اتفاق الدرع الصاروخية الأطلسية في قمة حلف الناتو في لشبونة لكن تركيا نجحت في أن تفرض بعض شروطها للقبول بالتوقيع على هذه الاتفاقية وخاصة رفض النص على اسم إيران أو روسيا أو أي دولة أخرى كدول مستهدفة من هذه الدرع، وعدم حصول “إسرائيل” على المعلومات التي ستحصل عليها محطات الإنذار المبكر ورادارات التنصت المشترك في قواعد حلف الأطلسي بتركيا .

وإذا كان هذا الموقف التركي قد نجح في احتواء الغضب الإيراني فإن تركيا لم تفوت فرصة إبداء حسن النوايا نحو “إسرائيل” عندما بادرت بالمشاركة في إخماد نيران حريق جبل الكرمل في فلسطين المحتلة وقبول إجراء محادثات مع مندوبين “إسرائيليين” لحل الخلافات بين البلدين شرط اعتذار “إسرائيل” عن اعتدائها على أسطول الحرية، لكن التعنت “الإسرائيلي” في رفض تقديم هذا الاعتذار من شأنه أن يعرقل فرص احتواء خلافات يبدو أن تركيا حريصة على تجاوزها التزاماً بحرصها على أن تبقى موازنة ومحايدة في الصراع بين الطرفين الإيراني و”الإسرائيلي” وأن تكون قادرة في الوقت نفسه على اتخاذ مبادرات إيجابية مع الغرب خاصة في الصراع العربي- “الإسرائيلي” والعراق والأزمة اللبنانية وبالذات بعد زيارة كل من الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للبنان .

هذه التفاعلات تضع العرب والنظام العربي في مأزق البقاء بعيداً عن إدارة التفاعلات الإقليمية خاصة في ظل انتكاسات النظام العربي وتفاقم حالة الاستقطاب التي فرضت نفسها بعد الحرب “الإسرائيلية” على لبنان صيف 2006 والعدوان “الإسرائيلي” الغادر على قطاع غزة (ديسمبر 2008 - يناير 2009)، وتداعى عملية التسوية في ظل سياسات التوسع الاستيطاني والتشدد “الإسرائيلي” .

العرب بين تحديات البيئة الدولية والإقليمية

واجه العرب كأمة أولاً وكنظام إقليمي ثانياً تحديات هائلة في ظل كل تلك التطورات الدولية والإقليمية، فهم من بات عليهم دفع فواتير التحولات التي حدثت في النظام العالمي مع مجئ جورج دبليو بوش وطاقمه المحافظ إلى البيت الأبيض وتوجههم إلى شن حرب عالمية جديدة ضد ما أسموه ب “الإرهاب” و”الدول الفاشلة” كرد فعل لتفجيرات 11 سبتمبر ،2001 فالوطن العربي ومعه العالم الإسلامي كان محور مخطط الشرق الأوسط الكبير وكانت أفغانستان ومن بعدها العراق أول من خضع لاستراتيجية الضربات الوقائية، وبعدها بدأت دول عربية عديدة تخضع لضغوط وابتزاز الإدارة الأمريكية والتدخل في شؤونها الداخلية تحت دعاوى الإصلاح الديمقراطي بهدف إجبارها على تقديم تنازلات في الملفين الفلسطيني والعراقي، لكن تداعيات الشرق الأوسط الكبير وغزو العراق ودعوة إعادة ترسيم الخرائط السياسية في المنطقة على أسس عرقية وطائفية ودينية واعتبار أن التقسيم هو الحل أخذت تمتد إلى خارج العراق، إلى السودان وإلى لبنان وإلى اليمن، وبدا الوطن العربي معرضاً لسيناريوهات “اللبننة” و”العرقنة” و”الصوملة” .

وإذا كانت دولة الكيان الصهيوني أول من استفاد من الغزو الأمريكي للعراق، حيث توجد تأكيدات أمريكية عسكرية وسياسية تكشف دور “إسرائيل” في تحفيز الأمريكيين لاحتلال العراق، فإنها كانت أيضاً هي أول من جنى ثمار مشروع الشرق الأوسط الكبير القائمة على تفكيك رابطة النظام العربي وفرض نظام آخر بديل يقوم على تفتيت الدولة العربية على أسس عرقية ودينية وطائفية من ناحية، وكانت أيضاً أول من جنى ثمار هذه السياسة في شكل انحياز أمريكي مطلق لمشروع السلام “الإسرائيلي” الذي بدأ بإجهاض الانتفاضة الفلسطينية واحتواء السلطة ومحاصرتها في مقرها وعزلها في الوقت الذي كان فيه النظام العربي يقبل بمشروع جديد للسلام الشامل حمل عنوان “مبادرة السلام العربية” التي جرى إقرارها في قمة بيروت عام 2002 .

في الوقت نفسه كان على العرب ونظامهم الإقليمي أن يدفعوا أيضاً أثمان اختلال توازن القوى الإقليمي وبروز القوتين الإيرانية والتركية إضافة إلى القوة “الإسرائيلية” والتنافس على رقعة إقليمية هي “وطن العرب” دون قدرة أو فعالية من النظام العربي لا على القيام بالوظائف وخاصة الوظيفة الدفاعية- الأمنية والوظيفة التكاملية، ولا على مواجهة التحديات سواء كانت تحديات داخلية أو خارجية إقليمية ودولية .

فإيران التي استفادت كثيراً من حروب الأمريكيين ضد أعدائها وخرجت ظافرة من إسقاط الأمريكيين لنظام حكم حركة طالبان في أفغانستان ولنظام حكم صدام حسين في العراق وظفت اختلال توازن القوى لصالحها وبدأت تسعى إلى توسيع مناطق نفوذها خاصة في الخليج العربي والعراق والمشرق العربي خاصة في لبنان وفلسطين ونسج شراكة قوية مع سوريا وقوى المقاومة العربية على أنقاض فشل النظام العربي في الحيلولة دون فرض الاستقطاب داخله بين محور للاعتدال وآخر للممانعة بضغوط أمريكية، وتقاعس النظام عن القيام بمسؤولياته تجاه فلسطين ولبنان .

التهديدات الإيرانية لم تقتصر على ذلك فقط بل إن تفاقم أزمة برنامجها النووي بدأت تفرض على العرب تهديدات جديدة ومتنوعة سواء جرى حل هذه الأزمة سلمياً أو عسكرياً . فالحل السلمي للأزمة بما قد يعطيه لإيران من قبول أمريكي ودولي لبرنامجها النووي، مصحوباً ب “حزمة حوافز سخية” اقتصادية وسياسية وأمنية وبالذات تمكينها من لعب أدوار معترف بها في الأمن الخليجي والأمن الإقليمي عموماً سيدفع العرب أثمانه، والحل العسكري وتداعياته سيدفع العرب أيضاً أثمانه، وهكذا يجد العرب ونظامهم الإقليمي رهناً للآفاق الملتبسة لحل أزمة البرنامج النووي الإيراني من ناحية، ولتنامي النفوذ الإيراني في مناطق عربية شديدة الحساسية خاصة الملفات العربية الثلاث الساخنة: العراق ولبنان وفلسطين ناهيك عن ملف الاحتقان الطائفي .

أما تركيا فهي ومن خلال طموحاتها الإقليمية وقدرتها على التوفيق بين علاقاتها المتداخلة مع كل من “إسرائيل” وإيران، فإنها باتت غير قادرة على توفير “موازن إقليمي” لدعم العرب في صراعاتهم مع “إسرائيل” وفي خلافاتهم مع إيران .

يبقى الخطر الأكبر الذي يتهدد العرب وهو الخطر “الإسرائيلي” في ظل تنامي مشروع التوسع الاستيطاني والدعم الأمريكي المطلق لهذا الكيان على حساب الحقوق العربية المشروعة وتحرير الأرض العربية المحتلة .

وهكذا عاش العرب ونظامهم الرسمي تهديدات مكثفة طيلة السنوات العشر الأولى من الألفية الثانية رغم أن العام الأول من هذه الألفية كان يشهد تأجج الانتفاضة الفلسطينية وتراجع القوة النسبي للكيان الصهيوني الذي تجلى واضحاً في الانسحاب “الإسرائيلي” غير المشروط من جنوب لبنان عام 2000 .

لقد كان هذا الانسحاب ثمرة انتصارات المقاومة في لبنان، وهي الانتصارات التي جددت الثقة في “خيار المقاومة” لكن لم تمض غير أشهر قليلة على فرحة العرب بانتصاراتهم في لبنان وصمودهم في فلسطين حتى كان النظام العربي يطرح ويقر وفي عاصمة لبنان مشروعه الجديد للسلام ولخيار السلام بإعلان قمة بيروت عام 2002 ما سمي ب “مبادرة السلام العربية” التي أكدت قبول العرب للتوقيع على اتفاقية سلام شاملة مع الكيان شرط الانسحاب الكامل إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران عام 1967 والإقرار بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين .

لقد كان تجاهل حكومة “إسرائيل” ورئيسها ارييل شارون لهذه المبادرة مفجعاً للنظام العربي، وهو التجاهل الذي لم يؤكده فقط في رفضه للمبادرة بل وفي منعه للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من الخروج من مقره في رام الله والمشاركة في هذه القمة .

لقد كان حصار عرفات رمزاً لحصار كل الشعب الفلسطيني بل و”للنظام العربي العازل” نفسه، وهو الحصار الذي عبّر عن نفسه مادياً في قيام الكيان الصهيوني ببناء الجدار العنصري الذي استهدف اقتطاع أجزاء واسعة من الضفة الغربية وضمها إلى الكيان ومستعمراته الممتدة في معظم أنحاء الضفة الغربية .

لقد بني “الجدار العنصري العازل” ليرمز إلى سياسة التمدد والاستيطان “الإسرائيلي” ولرفض الكيان ل “حل الدولتين” الذي أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الالتزام به، ودفع النظام العربي أثمانه الفادحة، وكان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات هو أول من دفع حياته ثمناً لهذا الحل الغائب أو المغيب الذي فشلت إدارة بوش ومن بعده إدارة أوباما في تحويله إلى واقع سواء من خلال الأدوار الباهتة للجنة الرباعية الدولية المسيطر عليها أمريكياً أو من خلال مبادرات إدارة بوش ومن بعده إدارة أوباما، ابتداء من رعاية مفاوضات فلسطينية- “إسرائيلية” فاشلة مع حكومة إيهود أولمرت وقبلها جولة محادثات أنابوليس 2007 أو من خلال فرض إدارة أوباما لجولة مفاوضات غير مباشرة وأخرى مباشرة لم تستطع هذه الإدارة حمايتها من جراء تقاعسها وعجزها عن فرض ضغوط على حكومة الكيان للتوقف عن سياستها الاستيطانية أو حتى تجميدها، وهو الفشل الذي انتهى الآن بتوقف عملية السلام وفشلها دون قدرة من النظام العربي حتى على التجاوب مع مبادرات من دول عديدة في العالم أسرعت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو ،1967 في الوقت الذي حصر النظام العربي نفسه في مجرد التقدم إلى مجلس الأمن لإصدار قرار ضد سياسة الاستيطان والعجز عن اتخاذ موقف عربي واضح من فيتو أمريكي محتمل ضد هذا المشروع الذي سيقدم إلى مجلس الأمن .

هذا العجز كان محصلة فشل النظام العربي في القيام بأدواره ووظائفه وانقسامه على القضية الفلسطينية ووقوعه أسير التزاماته بالخيار الأوحد “خيار السلام” دون قدرة على فرض خيارات بديلة .

هذا العجز عن طرح خيارات بديلة هو الذي أوقع العرب في فضيحة الانقسام على العدوان “الإسرائيلي” على لبنان صيف 2006 وعلى العدوان الإجرامي “الإسرائيلي” على قطاع غزة (ديسمبر/ كانون أول 2008  يناير/ كانون الثاني 2009) . انقسم العرب على العدوان “الإسرائيلي” على لبنان كما انقسموا على النصر، وتورطوا في الانقسام على العدوان “الإسرائيلي” على غزة ودخلوا طرفاً في فرض الحصار الظالم وعجزوا عن فك هذا الحصار الذي بادر الأحرار في العالم إلى كسره عبر مبادراتهم الرائعة وخاصة قافلة الحرية التي تصدت لها القوات “الإسرائيلية” بشراسة هذا العام وحالت دون وصولها إلى شواطئ غزة وكانت تتقدمها السفينة التركية مرمرة وعلى متنها أعداد كبيرة من المتطوعين الأتراك والعرب ومن كافة دول العالم .

هذه التطورات التي شهدها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وضعت العرب في مأزق مع المستقبل وبالذات إذا أخذنا في الاعتبار ما حدث للعراق من احتلال وتقسيم وأزمة سياسية حالت دون إعلان الحكومة العراقية أكثر من عشرة أشهر منذ الانتخابات التي جرت في مارس/ آذار الماضي، وها هو العراق يواجه الآن مستقبلاً غامضاً لحكومته الجديدة في ظل تحديات هائلة أبرزها دعوة مسعود برزاني رئيس الكيان الكردي إلى منح الأكراد حق تقرير المصير وما يعنيه ذلك من تجديد لدعوة التقسيم . أما لبنان الذي كان عليه أن يدفع أثمان فشل المشروع الأمريكي في العراق مناصفة مع فلسطين فقد تعرض لدعوة إسقاط “محور الشر” التي كانت الوجه الآخر لدعوة محاربة “الدولة الفاشلة” وكان المستهدف هو المقاومة في لبنان وفلسطين إضافة إلى سوريا وإيران والسودان بعد أن حلت ليبيا مشاكلها مع الغرب ابتداء بحل قضية لوكيربي ومن بعدها المنشآت النووية الليبية .

ضمن هذا المخطط وقع الاختيار على “حزب الله” كرمز لخيار المقاومة الذي أخذ يحاصر خيار التسوية من نجاح المقاومة اللبنانية في فرض الانسحاب غير المشروط من الجنوب اللبناني . اختيار “حزب الله” لم يكن اعتباطياً بل كان رداً على انتصار المقاومة في الجنوب ليكون بداية في حرب طويلة ضد إيران وسوريا بعد فشل توظيف القرار 1559 الصادر في 2/9/2004 في تحقيق الهدفين الرئيسيين وهما: الإجهاز على النفوذ السوري في لبنان وتصفية المقاومة من خلال تصفية حزب الله وأسلحته بالدعوة إلى نزع ما أسموه “أسلحة الميليشيات”، وجاءت العملية الإجرامية التي استهدفت رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14/2/2005 لتفجر الأوضاع الأمنية والسياسية في لبنان وهي الأوضاع التي مازالت متفجرة حتى الآن وتكاد تهدد مستقبل لبنان في ظل القرار الظني الذي أعدته المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال الحريري والذي جرى تسريب بعض بنوده وتؤشر إلى اتهام عناصر تابعة لحزب الله .

لبنان الذي تعرض لعدوان صيف 2006 بهدف التخلص من المقاومة ونجح وصمد يتعرض الآن لأهداف العدوان ذاتها التي لم يستطع العدوان العسكري تحقيقها عام ،2006 على نحو ما كشف جابي اشكنازي رئيس أركان جيش الكيان الذي وضع لبنان أمام أحد حربين: إما الحرب الأهلية كرد فعل على القرار الظني الاتهامي الخاص بقضية اغتيال الحريري، وإما الحرب “الإسرائيلية” التي قد تمتد إلى خارج لبنان لتصل إلى سوريا وربما إلى إيران .

ما يتهدد لبنان من خطر قد يمتد إلى سوريا التي تعرضت لعدوان على إحدى منشآتها في محافظة دير الزور عام 2007 وكشفت وثائق “ويكيليكس” أن الطائرات “الإسرائيلية” التي حصلت على ضوء أخضر أمريكي هي التي دمرت هذه المنشآت التي وصفتها بأنها “منشآت نووية”، وقد يمتد إلى إيران في ظل إصرار “إسرائيلي” على تدمير منشآت إيران النووية وتجاوز خيار العقوبات التي مازالت واشنطن حريصة على الالتزام به .

الحرب في لبنان أو الحرب على لبنان تتزامن مع فشل مشروع التسوية، وفشل محاولات حل الأزمة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس وعجز النظام العربي عن اتخاذ موقف تجاه الخطرين: خطر فشل مشروع التسوية دون بديل عربي مقتدر، وفشل حل الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية، وهو الفشل الذي يتجسد الآن في أربعة قضايا عربية:

* الأولى: تعرض السودان للانقسام في ظل الاستفتاء الذي سيجرى يوم التاسع من يناير/ كانون الثاني ،2011 وفقاً لما نصت عليه اتفاقية السلام بين حزب المؤتمر الوطني (الحاكم في الخرطوم) والحركة الشعبية لتحرير السودان (الحاكمة في جوبا) المعروفة ب “اتفاقية نيفاشا لعام 2005”، وهو الاستفتاء الذي سيقر انفصال الجنوب عن السودان وفق مؤشرات كثيرة تؤكد جدية هذا الانفصال، وهو انفصال يأتي مدعوماً “إسرائيلياً” وأمريكياً، وفق دعوة من قادة الجنوب بإقامة علاقات فورية مع “إسرائيل” عقب إعلان الاستقلال بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر تهدد كيان الدولة العربية .

* الثانية: المخاطر التي تتهدد الوحدة اليمنية وعودة شبح الانفصال في ظل عجز الدولة اليمنية عن تحقيق الاستقرار والأمن والتكامل الوطني بعد حرب طويلة ممتدة مع الحوثيين وتنظيم القاعدة، وعودة تيارات يمنية جنوبية إلى طرح خيار الانفصال .

* الثالثة: فشل مشروع الإصلاح السياسي العربي في العديد من الدول العربية سواء الدول التي أجريت فيها انتخابات جرى تزويرها، أو التي جرت فيها انتخابات لم تأت على هوى الحكام، وهو الفشل الذي يجيء مقروناً بفشل مشروع التنمية والعدل الاجتماعي ما يتهدد الدولة العربية في أمنها واستقرارها .

* الرابعة: فشل النظام العربي في إصلاح نفسه، فمقررات القمة العربية الدورية والقمة العربية الاستثنائية التي جرت عام 2010 في مدينة “سرت” الليبية خير شاهد على هذا الفشل، حيث تقاعس النظام العربي عن تطوير نفسه والتحول إلى اتحاد عربي في ظل إصرار وتمسك دول عربية بالإطار الهش والضعيف لجامعة الدول العربية، وفي ظل رفض مبادرة قادرة على النهوض بهذه العلاقات والنهوض بالمصالح العربية .

هذا الفشل مؤشر شديد الخطورة إلى المستقبل العربي مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إذا أخذنا في الاعتبار مجمل ما يشهده العالم الآن من تطورات وخاصة تحول العالم إلى منظومات مترابطة من النظم الإقليمية وبروز أهمية الإقليمية على حساب العالمية في ظل ظهور قوي للعديد من القوى الإقليمية الكبرى التي تحرص على أن تكون لها أدوار قوية داخل أقاليمها مثل الصين والهند وإيران وتركيا وجنوب إفريقيا والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وهي القوى الإقليمية التي نجح معظمها في أن يفرض نفسه على قيادة العالم وأن يكون مؤسساً ضمن “مجموعة العشرين” التي حلت محل “مجموعة الدول الصناعية الكبرى الثمانية” .

تطور مهم يفرض على العرب اليقظة والوعي وحتى النوايا وهم يستقبلون العقد الثاني من الألفية الثالثة أن يسارعوا إلى تحديث نظامهم الإقليمي وامتلاك مشروعهم القومي القادر على فرض التوازن لصالحهم في تفاعلاتهم مع القوى الإقليمية والقوى الدولية التي تتصارع على أرضهم مع أمل يجب أن يتجدد مع الدخول إلى العقد الثاني في هذه الألفية .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More